دراسات إسلامية

 

 

 

الإسلام محاصر اليوم

 

 

 

بقلم :  د. محمد الشحات الجندي

 

     من حق الإسلام كدين وثقافة وحضارة أنزله الله تعالى ليكمل به الأديان الكتابية السابقة عليه بفكر التوحيد الذي جاء به الخليل إبراهيم عليه السلام، أن تتاح له فرصة التعبير عن جوهره، والتعريف بمبادئه، وأن يطلع الناس على إنسانية الرسالة المنزلة على محمد صلوات الله وسلامه عليه وأن يعامل المسلمون باحترام، وأن تكفل لهم حقوقهم على سواء مع إخوانهم في الإنسانية على امتداد العالم.

     لقد شاع ضد الإسلام ألوان من سوء الظن والشك والاتهام والعداء حتى راحت القوى الكبرى في عالم اليوم تدق طبول الحرب وتزرع ألغام الصراعات في أوطان هذا الدين وضد أتباعه، وعمّت فرية الإرهاب والعنف والكراهية ورفض الآخر في الأبواق العالمية، من خلال ما يملكه الغرب من آلة إعلامية جبارة، لا تتوقف عن الحديث المسيء والمشوه عن الإسلام، في لغة تحريضية فجة تنسب كل المعايب والسلوكيات الهمجية تجاه كل ما يتصل بالإسلام.

     لقد اعتبرت الحضارة الغربية أن الإسلام المنسوب في زعمهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصك الذي صكه المستشرقون باسم المحمدية وإلى هؤلاء البدو من العرب القابعين في جزيرة العرب. انتقاصاً من المسيحية، وخصماً من رصيدهم في الهيمنة والسيطرة على مقدرات العالم ومصيره، وأنه ما كان يجوز لهذا الدين ولا لذلك النبي وأتباعه المسلمين أن يعلنوا عن هذا الدين، ويقوموا بنشره، مما أدى إلى أن يقوض الوجود المسيحي، ويستولي على الحضارة الرومانية سليلة الحضارة الغربية الحديثة، ويفرض وجوده ورسالته على الناس، كدين عالمي.

     ومكمن الخطأ في هذا الفهم للإسلام ولنبيه وأتباعه أن الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين، لم يكن ثورة محلية أو حركة داخلية، ولا مطلبا قطريًا ولا مذهبا قوميّا، جاء لطموحات شخصية أو لمطامع مادية أو لتوسعات إقليمية، ومنافسات على زعامة أو سيطرة ونزعات عدوانية كما يحلو للغربيين أن ينعتوا هذا الدين ويلصقوا به كل ما هو غير إنساني وغير حضاري، حقيقة الأمر والقطب الأعظم في الإسلام الذي لا يفسح مفكرو الغرب وأقطابه وصانعو القرار فيه أن يتفهموا قوته وحيويته أنه دين بالمعنى الكامل لهذا المصطلح كمنظومة جامعة للإيمان بالإله الخالق الحقيق بالربوبية وبالرسل جميعًا وبالكتب المقدسة والملائكة واليوم الآخر، وهو الدين الشامل الذي جاء به النبي وحمل المؤمنون لواءه من بعده: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (سورة البقرة الآية: 285).

     كما أراده الله نهوضا وارتفاعا بالإنسان، وإسعاد البشر، وإقامة نظام يتكامل فيه الدين باعتباره وضعا إلهيّا مع الحياة بإعمال الملكات والقوى التي خلقها الله تعالى في الإنسان.

     وعلى هذا النسق من الاعتراف بالأديان الكتابية اليهودية والنصرانية كانت دعوة أتباعهما إلى الإيمان بالله، وضرورة التعايش السلمي، وحمل رسالة دين الله إلى العالمين في كل أرجاء الأرض، والتحرر من كل ما سوى الله، والتعاون على إرساء هذه المفاهيم الواضحة، فقد دعا القرآن المسلم والمسيحي واليهودي إلى الالتفاف حول هذه الرسالة، والعمل وفقا لتلك الدعوة، في ذلك النداء الرحب: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتٰبِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (سورة آل عمران الآية: 64). وما ذلك إلا لأن الإسلام هو الدين الجامع لأديان الله والرسالة الخاتمة إلى البشر، ينبع من مشكاة واحدة، هي النور الإلهي، الذي وجد غرسه الأول في دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام.

     وعلى هدى هذه الحقيقة، تبرز خطيئة الفكر الغربي تجاه الإسلام في أنه جاء ليزيل المسيحية، وذات الخطيئة في اليهودية كذلك، ويحل محلهما، وينتقص من أرضهما، ويسوم أتباعهما العذاب، ويبذر بذور التوتر والصراع العالمي، فما جاء الإسلام إلا حاملاً رسالتيهما الصحيحة، ومؤمنًا برسوليهما ومعليًا شأنيهما، ومتصالحاً مع أتباعهما، داعياً إلى التعاون معهما في سبيل المصلحة والخير والسلام للبشرية جمعاء.

     وقد أشار الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى هذا الجوهر النفيس في قوله: «إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا وحسنه إلا موضع لبنة، فصار الناس يطوفون ويقولون: لو وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين».

     ومن ذلك يدرك الناظر بعين الإنصاف لدين الإسلام أنه لا يقيم خصومة مع أحد، ولا عداء مع من آمن بدين آخر ورفض الإسلام، وأنه يمد يده دوما إلى المخالفين، ويقيم جسور التعاون معهم، على أساس أن كل إنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، على شرط احترام أصوله وثوابته، ومسالمة أتباعه وعدم فرض الأيدولوجية الغربية وقهر المسلمين على الانصياع لها، وممارسة الغزو الفكري، ومحو أو تمييع الشخصية المسلمة.

     ومن هنا تبرز الإشكالية القائمة في علاقة الإسلام والمسلمين بالغرب، من منطلق أن المسلمين كلهم إرهابيون وحاقدون على الغرب، بسبب صنيع فئة مارقة عن الإسلام في ممارستها لأعمال عدوانية ضد الأبرياء والمدنيين، كما يتجلى ذلك في الاختراق الغربي للإسلام في عمق أوطان المسلمين، وتفكيك بنية المجتمعات الإسلامية من الداخل، وإثارة نزعات الانفصال والفرقة، وإشعال نيران الحروب في قلب العالم الإسلامي، ودعم الوجود الإسرائيلي وتكريس عدوانها على الفلسطينيين، ومناصرتها في أيدولوجيتها العنصرية واستباحتها لحرمة المقدسات الإسلامية في المسجد الأقصى، وأماكن العبادة، والوطن الفلسطيني.

     ولو أنصف عقلاء الغرب ودعاة السلام فيه، واستجابوا لداعي العقل الرشيد، والمصلحة العالمية، لأيقنوا أن التعامل على أساس الاحترام مع رسالة الإسلام في الدين والحياة، والحفاظ على حقوق المسلمين، والتعاون المخلص معهم، هو السبيل الحق، لإرساء السلام العالمي، وثقافة حقوق الإنسان.

     لكن الغرب، بما أحرزه من تفوق مادي وتكنولوجي يصر على التخلي عن الهوية الدينيةَ وإضعاف شخصية المسلم، بالتشكيك في الإسلام ونزعه من أعماق نفوس المسلمين، ومحو الإيمان بالقرآن والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم إن أمكنه ذلك، أو على الأقل انتزاع أوطانه، والسيطرة على مقدراته، ونهب ثرواته، وإخضاع المسلمين، واختراق دينهم، وجعلهم تروسا في آلة الصناعة الغربية.

     إن الواقع والمشاهد على الساحة الإسلامية يؤكد على سلوك هذه الممارسات الظالمة ضد الإسلام والمسلمين، وهي تمضى على قدم وساق غير عابئة بمطالبات المسلمين بالكف عن العدوان على دينهم وأوطانهم، ولا مكترثة بأصوات دعاة السلام، وهم موجودون في العالم الغربي، إذ يأبى أصحاب القرار إلا أن يكرسوا هذا الصراع وأن يبقوا على تبعية العالم الإسلامي لسطوتهم وسلطانهم.

     وفي ذات الوقت ولصرف الأنظار عن إيجاد الحلول المنهية للمشكلات القائمة والصراعات المشتعلة على أرض العالم الإسلامي، لا يكف الغرب عن طرح مبادرات ذات بريق جذاب، وأهداف كبيرة تبنى عليها آمال كبار دون أن تجد لها صدى ملموساً على أرض الواقع، فعلى المستوى الديني والفكري تدور حوارات الأديان والثقافات والحضارات، نذكر مما انعقد منها مؤخرًا في شهر أبريل الماضي في لقاء القمة لزعماء الأديان العالمية الذي عقد في باكو عاصمة «آذربيجان»، ودعا إلى استتباب السلام الذي يحفظ لكل دولة وحدتها الترابية، وأن الحاجة إلى التعاون بين المجتمعات الدينية التقليدية تتعاظم بحكم الظروف الراهنة، وأكد مسؤلية زعماء الأديان تجاه مستقبل العالم التي تحتم عليهم مواجهة الأنانية والعنف والعداء.

     كذلك انعقد المنتدى الثالث لتحالف الحضارات في «البرازيل»، والذي دارت فعالياته حول التنوع الثقافي وتحالف الحضارات كإحدى الوسائل الأساسية لتحقيق السلام على المستوى الدولي.

     ولسنا نقول بأنه لا جدوى من هذه المؤتمرات والمنتديات، بل نثمنها، وندعو إلى تفعيلها، ومتابعة ما يصدر عنها، لكن الأهم هو توفر النية الصادقة والإرادة الجادة على ترجمة حصيلة رؤاها في الواقع المعيش، والاعتراف بالإسلام كدين ومنهج في النظام العالمي، والدعوة إلى تخليص العالم من الصراعات والحروب، والكف عن سلوك الأسباب الموصلة إليها، وإرساء السلام العالمي والتعاون النافع بين الأمم والشعوب.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35